26 - 06 - 2024

تعا اشرب شاي | حوش عننا عبيدك يارب

تعا اشرب شاي | حوش عننا عبيدك يارب

منذ حوالى خمسة عشرة عاما، أحسست بآلام مبرحة فى ساقي، نصحنى كثير من الأصدقاء بزيارة أحد عباقرة الطب فى تخصص الأوعية الدموية.

كان رجلا متواضعًا، يضع رقم هاتفه المحمول بل وهاتف منزله الأرضى أيضا على "روشتة" مرضاه، و رغم شهرته العالمية، كان سعر الكشف عنده لا يزيد عن أربعين جنيهًا .

لم يكن يزعجنى فى زيارته إلا شيئين، أولهما: الزحام الكبير وطول فترة الإنتظار، وثانيهما: التومرجى الذى كان يدير العيادة.

كان رجلا فظا، سمجا إلى أبعد الحدود، يظل يمن علينا بأفضال الطبيب الشهم وكأنه إبن الحاجة خالته طوال الجلسة: "انتو والله ما مقدرين الأملة اللى إنتو فيها ، دا فيه ناس بيجوله من بره عشان يكشفوا، عارفين الدكتور اللى لسه إبن إمبارح بياخد كام ودا دكتور عالمى وبياخد ملاليم "؟  

كان المرضى يستمعون لوصلة المن والأذى تلك فى كل مرة، وكأن على رؤوسهم الطير، فمن الذى يجرؤ على الجدال معه أو التلفظ بكلمة قد تكلفه كرامته، التى سيُفَتِش عنها يا ولدى تحت أرجل المرضى وفى سلات القمامة ان وُجِد لها أثر، أو يقوم الرجل بتكدير المريض المشاغب فيحكم عليه بتنظيف دورات المياه أو تسليك مجارى الصرف الصحى. 

ذات مرة، همست لصديقة كانت معى: "يمكن عايز فلوس... ايه رأيك أديله؟"

أجابت بتحفظ: "بلاش أحسن يحصلٌك زى ما حصل مع عبد الشكور، واحد صاحبى ما تعرفيهوش"

فإبتلعت ما تبقى من ريقى والتزمت الصمت.

جرت العادة على أن يخلع المرضى جواربهم قبل الدخول إلى الطبيب حتى الجوارب النسائية الخفيفة لزوم فحص الأوردة الدموية .

فى أحد الايام إستطعت أن أحقق إنجازا ما زلت أفخر به حتى يومنا هذا .

فى ذلك اليوم كنت أول الموجودين .

 دخلت فلم أجد أحدا سواى، ولم يكن الطبيب قد وصل بعد .

وقفت أمام الرجل بعد أن أتممت الحجز، ثم إستأذنته فى قضاء بعض المشاوير حتى يحين دورى، فلم يمانع وسألنى بغطرسة وصَلَف أن يستعمل هاتفى المحمول، فلبيت الطلب فورا كتلميذة تطمع فى رضاء "الأبلة" حين تطلب قلما أو ورقا من التلاميذ .

و فى ذلك الوقت كان للمحمول "شنة ورنة" أو بالأحرى "شنة" فقط بدون رنة حيث كان سعر الدقيقة بمبلغ وقدره، فكان لايُسْتَخدم إلا إذا إنغرز صاحبه فى "سيخ شاورما" فى إحدى مطاعم الهنود الحُمر، ويريد أن يُمَلٌى وصيته الأخيرة.

ورغم ذلك، صال الرجل وجال أثناء المكالمة، بينما كنت أحلق من السعادة بعد إختصنى بهذا الشرف العظيم.

عندما عدت إلى العيادة كانت قد اكتظت بالمرضى عن آخرها، وظل ينادى على من يصيبه الدور وفى كل مرة أنظر اليه بعشم لعله ينظر إلى بعين الرأفة، إلا أن ذلك كان يزيد من إصراره على إبراز مخارج الحروف أثناء النداء على غيرى مع تسديد نظرات إلى وكأنه يقول: "عابو المكالمة  اللى حتقرفينا بيها، مش أنا يا هانم اللى أبيع ضميرى بمكالمة تليفون".

عندما إقتربت الساعة من الثانية عشر صباحا، لم يعد بالعيادة غيرى ورجل آخر كانت معه زوجته، فنظر إلى الرجل قائلا : إقلع الشراب، دورك بعد اللى جوه.

فنظرت إليه متوسلة: أنا أول واحدة جيت.

وكأنه كان ينتظر هذه الجملة ليسمعنى كلمات ليست كالكلمات: وماقعدتيش ليه تستنى دورك يا هانم؟ انتى جاية لدكتور مش جاية تتفسحى.. أنا حادخلك بعد الأستاذ لكرم أخلاقى مش أكتر، لكن المرة الجاية مفيش دخول بعد الساعة إتناشر.

نظرت إليه وأنا أشعر بالذنب وأبدى الندم متوسلة: "يارب أبوك يحج دخلنى ومش حاكررها .. يارب تطلع الهرم .. يارب تركب الأتوبيس أبو دورين" .

ولكن لم يزده دعائى إلا إصرارا.

نظر إلىٌ الرجل الآخر بشفقة قائلا للرجل: "خلى المدام تدخل الأول، أنا ماعنديش مانع ".

وقبل أن أشكره دخل مع الرجل فى وصلة ردح: "إنتو حتمشونى على مزاجكم، فيه هنا نظام، وهى مش حتدخل غير فى المعاد اللى أنا أقول عليه".

لحظتها خرج المريض الذى كان بحجرة الكشف ودق الطبيب الجرس إيذانا بدخول مريض جديد، فأشار التومرجى للرجل بالدخول، فإذا بالرجل يقوم ويفتح الباب ثم يشير إلى قائلا: إتفضلى يا مدام.

تمتمت بعبارات الشكر وأنا مذعورة وقلبى مع الرجل الذى توقعت أن يكون قد تلقى صفعة على وجهه من الباشتمرجى، كتلك التى تلقاها العندليب من المرحوم عماد حمدى قائلا له: إنت بتتحدانى ياولد !!!

 ولم أنس بالطبع عند خروجى ومرورى من أمامه أن أتلافى شلوتا قد ينالنى منه جزاءً لى أنا الأخرى .

 ومنذ ذلك اليوم لم أكرر الزيارة.

مرت بضعة أشهر وازدادت حالتى سوءا، فإقترحت عَلَىْ أخت فاضلة أن تأخذنى إلى طبيب أمين للغاية و إيده مبروكة - هكذا أخبرتنى-  فذهبت معها إلى العيادة ولفت نظرى كم السيدات المنتقبات اللاتى ينتظرن دورهن .

شعرت الحاجة أم مازن (مُرَافِقَتى) بإندهاشى  ، فقالت مُوَضِحَة : أصله طبيب ملتزم وبيكشف من فوق الهدوم!!!

دخلت إلى حجرة الكشف وما أن بدأ فى الكشف حتى صرخ غاضبا: أستغفر الله العظيم، إنتى مش لابسة شراب؟ 

رددت بخجل: ماهو لو أعرف إن حضرتك بتكشف من فوق الهدوم كنت خَرٌجْت لحضرتك أوعيتى الدموية برة قبل ماجى .

لم يستكمل الكشف (آه والله) وإلتفت الى السيدة التى كانت معى وكانا على معرفة وثيقة قائلا : عندها دوالى يا أم مازن، فأجابت السيدة بالنفى .

- طيب فيه شعيرات باينة؟

_لا مفيش يا دكتور، أنا خدت بالى.

فجلس إلى مكتبه ثم إطٌلَع على نتيجة الأشعة والتحاليل وقال بقلق : شوفى إنتى كل حاجة فى التقارير سليمة.. وقبل أن أقاطعه لأسأل عن سبب الألم قال بشفقة: أم مازن حتعرفك إنتى عندك إيه.

ثم وجه إليها الكلام قائلا: طبعا إنتى عارفة.

فأجابت بثقة: طبعا يا دكتور، جزاك الله خيرا.

جذبتنى إلى الخارج وأنا أبدو كالبلهاء حتى ما أن ركبنا السيارة، سألتنى بإهتمام: إنتى بتشوفى حاجات غريبة؟

أجبتها ببراءة: جدا، أحيانا باشوف راجل بيشتم مراته فى الشارع او....

قاطعتنى قائلة: مش دا قصدى، طب بصى، وإنتى نايمة بتسمعى حد بيتنفس جنبك.

أجبتها بثقة: طبعا وبيشخر كمان، دا جوزى.

ردت بفروغ صبر: لأ، قصدى أما بتبقى لوحدك.

هنا بدأت افهم ما تقصده السيدة، فأجبت بإستهتار: عفريت يعني!!

إلتفتت حولها محذرة، ثم أعطتنى ورقة مطوية وهمست قائلة: إقرئى الآيات اللى فى الورقة دى على كيس رز، وحطيه جنبك عالمخدة وإنتى نايمة.

سألتها وانا أبدى كثيرا من الاهتمام: رز عادى ولا بسمتى؟

عندما عدت إلى البيت فتحت الورقة وقلت فى نفسى ماذا سيضيرنى إن فعلت .

قرأت الآيات على كيس الأرز ولم أدر بنفسى إلا وأنا أغسله و أطبخه بمنتهى اللامبالاة ليتحول بقدرة قادر إلى طاجن محشى فلفل .

فى المساء كان زوجى بالخارج وكنت وحدى بالبيت، فحاولت النوم، ولكن فجأة تذكرت حديث السيدة، فإستحوذ الفزع على قلبى، كتمت أنفاسى لأتيقن أننى وحدى بالحجرة، وحاولت إقناع نَفْسى ولكنى فشلت، تذكرت بندم ما حدث للأرز، و فكرت لوهلة أن أضع المحشى الذى قرأت عليه بجوار رأسى فوق الوسادة، إلا أننى خشيت أن أستفز الأسياد بعد ان غَلٌفْته بالفلفل و وضعت به قدرا لا يُستهان به من الشطة.

........................

تذكرت هذه الأيام عندما شاهدت على التلفاز مؤخرا، شيخا يَدٌعى قدرته على إخراج جِنٌى من جسد إمرأة على الهواء مباشرة، كان يطلب منه بإصرار أن يتلو الشهادتين، بينما الجِنى - الذى كان يتكلم بلسان المرأة - يصرخ من الألم ويتوسل إلى الشيخ مذعورا، كلما سمع منه إسم الله أن يكف، ولكنه أبدأ لا يريد ترديد الشهادة.

 وفجأة ضرب الشيخ بيده على المكتب الذى أمامه بقوة، ثم وقف وبدأ يهتز كأنه يجلس فوق غسالة اتوماتيكية أثناء دورة "العصر"، وأخذ يتباعد ويتدانى كَجِرْذَيْن فى جُحْر، وقد تبدلت ملامحه حتى تخيلت أن الجِنى قد ترك المرأة ولبسه بدلا منها، بلعت ريقى فى خوف وأنا أقول فى نفسى: سلام قولا من رب رحيم ، إيه يا عم إنت حَتِتْحَوِل واللا إيه؟ 

 وصارت معركة على الهواء بين العفاريت التى كانت "بتتنطط فى وجه الشيخ" والعفريت الذى يلبس السيدة، وقد ركب كل منهم رأسه، ولا أدرى حتى الآن لِمَ لَمْ يقم هذا الجِنى الجبار الذى إستطاع أن يسكن جسد السيدة لسنوات، بإغلاق التلفاز ليستريح، أو إضرام النار فى الكوكب بأكمله كى نستريح جميعا .

كانت العبارات التى تمر أمامى على الشاشة مبهرة حقا: ربنا معاك يا شيخنا الجليل.. إسحقه يا مولانا.. ربنا يهديه ويدخل الإسلام على إيدك يا شيخ...الخ

أما أكثر العبارات التى وقفت أمامها حزينة فقد كانت هجوما على الشيخ كتب صاحبها: الحمد لله على نعمة الإلحاد، الإسلام دين التخلف.

الشيخ الفاضل لم يكتف فقط بتنفير خلق الله من الإسلام، ولكنه أصابهم بالشيزوفرينا أيضا، فصاحب التعليق يحمد الإله الذى لا يؤمن بوجوده أساسا على إقتناعه بفكرة عدم وجوده .

ربنا يزيح.. حوش عننا عبيدك يارب.
------------------
بقلم: أماني قاسم 

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف





اعلان